إشكالية الاختصاص النوعي في مثال الكراء التجاري أو ظهير 24 ماي 1955 بين المحاكم الابتدائية والمحاكم التجارية
ذ. محمد بولمان محام بهيئة مراكش
من الاشكالات القانونية التي واجهت المحاكم التجارية غداة افتتاحها :
اشكالية العلاقة بين هذه المحاكم وبين ظهير 24 ماي1955 أو بصيغة تساؤلية أدق:
أيهما المختص بتطبيق هذا الظهير: هل المحاكم الابتدائية أم المحاكم التجارية؟
وسنناقش فيما يلي الآراء والأجوبة التي انتهى إليها هذا التساؤل.
الرأي الأول:
فمن قائل بان المحاكم الابتدائية هي التي لا تزال مختصة ـ كما كانت من قبل ـ بالنظر في تطبيقات ظهير 24 ماي 1955، وذلك لعدم وجود نص ـ جديد ـ يسلبها هذا الاختصاص صراحة ويمدد ولو ضمنيا اختصاص المحاكم التجارية ليشمل حتى الدعاوي المتعلقة بانهاء وتجديد الكراء " التجاري" طبقا للظهير المذكور.
ونوضح هذا الراي عبر قراءة خاصة للمواد 5 - 6- 7- 8 - 9 - 20 المنظمة لاختصاص المحاكم التجارية.
فبالنسبة للمادة 5 من ق م ت
بغض النظر عما قيل في الصياغة غير الموفقة لهذه المادة، والتي لم تكن في اعتقادنا واضحة بالقدر الكافي للتعبير عن إرادة المشرع بالنسبة لهذه المسالة : تحديد الاختصاص النوعي، الشيء الذي عرضها للانتقاد اكثر من غيرها، بغض النظر عن ذلك، فان فقرات هذه المادة لا تسمح بادخال الدعاوي المذكورة في نطـاق اختصاصـات المحاكـم التجاريـة ولو بالاكراه.
الفقرة الأولى:
لا من بوابة الدعاوي المتعلقة بالعقود التجارية المسماة في مدونة التجارة الحالية، والتي لا تخرج عن الرهن، الوكالة، السمسرة، الوكالة بالعمولة، الائتمان التجاري، عقد النقل والعقود البنكية، كما يفهم من تتبع قراءة المادة الخامسة إلى نهاية فقرتها الأولى مع حذف كلمة " التجارية" من هذه الفقرة واستبدالها بعبارة " التي تنظمها المدونة …" ـ أو اضافتهما إلى بعضهما ـ ولا يظهر ان من بينها عقد الكراء التجاري الذي تظل دعاويه من اختصاص المحاكم المدنية.
ثم ان عقد الكراء بطبيعته، هو عقد مدني ولا يغير من طبيعته تلك، استعمال محله للتجارة أو للسكنى مثلا، فتنوع الاستعمال لا يفيد الا في تنظيم العلاقة بين اطراف العقد باملاء بعض السلوكات القانونية عليهم، تناسب ذلك الاستعمال وبشكل آمر في بعض الحالات، كما هو الشان في ظهير 24 ماي 1955 وقانون 25/12/1980 ولا علاقة له بطبيعة العقد الذي يظل مدنيا.
ثم ان هذا العقد ليس من بين الانشطة التي إذا ما اعتادها أو احترفها الشخص اصبح تاجرا طبقا للمواد 6 و7 من م ت.
ولا يمكن ان يفيد في ذلك حتى مقياس المماثلة ـ المادة 8 من نفس القانون ـ اذ من الصعب ايجاد وجه للتماثل بين تلك الانشطة وبين عقد كراء محل ولو للاستعمال التجاري.
ومن الناذر ـ علاوة على ذلك ـ على مستوى الواقع ان نصادف من يمارس كمكر " عقد الكراء" بكيفية اعتيادية أو احترافية.
الفقرة الثانية:
وبالإضافة إلى ذلك، لا نعتقد، ان عبارة الدعاوي التي تنشأ بين التجار والمتعلقة بأعمالهم التجارية من الرحابة بحيث يمكنها ان تسع مسالة إنهاء وتجديد عقد كراء المحلات المستعملة للتجارة والصناعة والحرفة، لان الامر قد لا يتعلق بتاجرين، وقد لا يتعلق بأعمالهم التجارية وهو الغالب في عقد الكراء، كما سبق ذكره، باعتبار عقدا مدنيا يدخل في باب الإدارة المدنية للاموال بشكل عام.
الفقرة الثالثة:
وكذلك الشان بالنسبة للدعاوي المتعلقة بالاوراق التجارية، فعقد الكراء لا يدخل ضمن هذه الأوراق، وبالتالي لا يمكن للمحاكم التجارية ان تفصل في الدعوى التي تتعلق به باعتباره ورقة تجارية، خاصة وان تلك الأوراق محددة بمقتضى القانون وهي الكمبيالة السند لامر، الشيك، وليس من بينها قطعا عقد الكراء.
الفقرة الرابعة:
ونفس الشيء بالنسبة للدعاوي الناشئة بين شركاء في شركة تجارية، فلا يمكن اعتبار دعاوي ظهير24 ماي 1955 ـ من انهاء وتجديد لعقد الكراء وما يرافقهما أو يتحللهما من مقتضيات آمرة في بعض ـ من قبل الدعاوي التي قد تنشا بين شركاء في شركة تجارية.
ولو ان مناقشة هذه الفقرة من المادة 5 ليست من صميم هذا الموضوع، الا من زاوية امكان أو عدم امكان استيعابها حتى للكراء " التجاري" فاننا نغتنم هذه الفرصة للتوضيح، بان هذه الفقرة تعني النزاعات التي قد تنشا بين شركاء في شركة تجارية واحدة وتتعلق بتاسيسها أو تسييرها أو حلها أو على قول المجلس الاعلى ب " الدعاوي التي يكون موضوعها الشركة نفسها : فيما يتعلق بإدارتها أو كـيانها أو نشـاطها بـين اعضـائهـا، لا التي يكون موضوعها التزام بين الشركة والغير"، وهو بصدد توضيـح المقصـود بدعـاوي الشركات المشار إليها في الفقرة 13 من الفصل 28 من ق م م. الذي يحدد الحالات المخالفة من حيث الاختصاص المكاني لما ورد في الفصل 27 من ق م م. ـ انظر القرار عدد 229 بتاريخ 23/1/91، قرارات المجلس الاعلى في المادة التجارية من صفحة 70 إلى 99.
الفقرة الخامسة:
ويمكن الوقوف قليلا عند هذه الفقرة التي تجعل النزاعات المتعلقة بالاصول التجارية من نصيب المحاكم التجارية، اذ كثيرا ما يقع الخلط بين مفهوم الأصل التجاري والمحل التجاري، وقد اتخذ هذا الخلط في الاونة الاخيرة كأساس للرأي القائل باختصاص المحاكم التجارية في قضايا ظهير 24 ماي1955، ما دام انها، أي تلك المحاكم ، تختص في النزاعات المتعلقة بتلك الاصول.
لكن يبدو واضحا ان الأصل التجارية ليس هو المحل التجاري : فالاول عبارة عن منقول تظافرت في تكوينه عدة عناصر قد يكون من ضمنها الحق في الكراء ـ وهو كذلك في الغالب ـ وقد لا يكون.
ويمكن ان يكون محلا لتصرفات مثل البيع والرهن أو تقديمه خصة في شركة ـ المادة 81 من م ت. ـ كما يمكن ان يكون محل عقد كراء ـ المادة 152 من م ت.
اما الثاني ـ أي المحل التجاري ـ فهو المكان الذي يستغل فيه ذلك الأصل اما بناء على عقد كراء أو بدونه، وهو يخضع من حيث التصرفات التي ترد عليه لقواعد واجراءات مغايرة لتلك التي تخضع لها التصرفات التي ترد على الأصل التجاري.
كما انه بالامكان التصرف في احدهما دون الاخر - طبعا - متى كانت ملكيتها تعود لنفس الشخص، اذ يمكن في هذه الحالة بيع الأصل التجاري مستقلا عن المحل التجاري، كما يمكن بيع العقار منفصلا عن الأصل التجاري ما لم ينص في العقد على غير ذلك.
اما من حيث اثر ذلك التصرف على عقد الكراء، فان بيع الأصل التجاري وحده يستتبعه انتقال حق الكراء إلى مشتري ذلك الأصل ما لم يستثن ذلك صراحة في العقد، وان بيع العقار - المحل- وحده لا يترتب عنه أي اثر في ذلك، ما لم ينص في العقد ان البيع يشمل كذلك الأصل التجاري.
وتبعا لذلك وباعتبار ان ظهير 24 ماي1955، لا يطبق الا على الكراء " التجاري" انهاء وتجديدا، فان نزاعاته لا يمكن ادخالها ضمن نطاق الدعاوى المتعلقة بالاصول التجارية لجعلها هي بدورها من اختصاص المحاكم التجارية التي لا تختص حسب النص، الا بالدعاوى المتعلقة بالاصول التجارية وحدها دون غيرها.
وبالنسبة للمادة 6 من ق م ت
ان هذه المادة تحدد قيمة الطلبات التي تختص المحاكم التجارية بالنظر فيها ابتدائيا وانتهائيا والتي لا حق لمحكمة الاستئناف التجارية بالنظر فيها ما لم تكن قيمتها قد تجاوزت المبلغ المشار إليه في تلك المادة وقدره 9.000 درهم وبالتالي لا علاقة لها بالاشكالية أو بالتساؤل المطروح.
وبالنسبة للمادة 7 التي تجيز للمحكمة التجارية الامر بالاداء المسبق لجزء من الدين بشروط وان كانت بدورها تخرج عن موضوع هذه المناقشة، فاننا نريد هنا ـ فقط ـ تسجيل الأسئلة التالية ـ كتداعيات ـ اثارتها قراءة هذه المادة :
-هل هذا الامر بالاداء المسبق قابل للاستئناف ام لا ؟ وهل يمكن للمحكمة ان تقضي به ولو بدون طلب، أي فقط بمجرد ما يظهر لها ان الدين ثابت وليس محل نزاع جدي؟
-هل هذا نفاذ معجل في جزء من الدين معلق على تقديم ضمانات عينية أو شخصية، واذا كان الامر كذلك فلماذا عبر المشرع عنه بالاداء المسبق؟ ولماذا علقه على الكفالة؟ واذا لم يكن كذلك، كيف يمكن تنفيذه، وباي اعتبار سيكون هذا التنفيذ، هل باعتباره امرا ولائيا ام ماذا ؟
-وهل الامر يتعلق بحالة استعجال أو كل المشرع امرها لمحكمة الموضوع، بما يعني ذلك من شموله بالنفاذ المعجل بقوة القانون ؟
ثم، اما كان للمشرع ان يترك هذا الاختصاص لقاضي المستعجلات وهو ما فعلته فرنسا، مع عدم الاهتمام بمسألتي الاستعجال والمساس بالموضوع، اذ لا يلتزم هنا القاضي الا بالتاكد من وجود سند الالتزام وخلوه من النزاع الجدي ؟
ثم الا يمكن القول بان المشرع المغربي حينما اعترف لمحكمة الموضوع بحق النظر حتى في الوجه الاستعجالي من القضية المطروحة عليها دون اكتراث بالمساس بأصل الحق، يكون قد اخذ بما نادى به بعض المهتمين بالقضاء الاستعجالي ـ انظر ندوة القضاء الاستعجالي : 5 ـ 7 فبراير1986.
واذا كنا نأمل ان يكون هذا هو قصد المشرع، فاننا مع ذلك نتساءل ـ مرة اخرى ـ هل الامر بالاداء المسبق قابل للاستئناف مباشرة ام لا بد من انتظار صدور الحكم البات في الموضوع، كما هو الشان بالنسبة للقرارات التمهيدية التي لا تستانف الا مع الاحكام الفاصلة في الموضوع طبقا للفصل 140 من ق م. ؟ واذا كان قابلا للاستئناف باستقلال عن ذلك الحكم، فما هو اجل استئنافه، وهل يمكن ان تنطبق عليه ـ أي الامر بالاداء المسبق ـ القواعد المطبقة على القرارات الاستعجالية، خاصة منها : قاعدة ان الاوامر الاستعجالية مشمولة بالنفاذ المعجل بقوة القانون وكذلك إمكانية الامر بتنفيذها على الأصل وعدم قابليتها للطعن بالتعرض؟
وعلى اية حال، فان هذه المادة ـ المادة 7، وان اتت بمقتضيات جديدة، فانها بعيدة عن موضوع هذه المناقشة، كما سبقت الاشارة إلى ذلك.
بالنسبة للمادة 8
ان هذه المادة كذلك لا تضيف أي جديد يسمح لنا باستنتاجات حول اختصاص المحاكم التجارية أو عدم اختصاصها بنزاعات الكراء " التجاري" فهي تنظم كيفية البت في الدفع بعدم الاختصاص النوعي وتحديد اجله واجل استئناف الحكم الصادر فيه الخ …
بالنسبة للمادة 9
اما المادة 9 فانها تمدد اختصاص المحكمة التجارية ليشمل حتى الجانب المدني عندما يكون مطروحا ضمن مجموع النزاع التجاري، وبالتالي فلا علاقة لها بموضوعنا.
اما بالنسبة للمادة 20
يبدو ان هذه المادة بخلاف المواد السابق ذكرها، قادرة على اضفاء المزيد من الضوء على الاشكالية المطروحة، ذلك ان ظهير 24 ماي 1955 ينظم مسطرة أساسية لا يمكن ـ متابعة ـ التقاضي في اطاره إلى النهاية وبشكل سليم الا بعد المرور عن طريقها، انها مسطرة الصلح :
جاء في الفصل 27 من هذا الظهير ما يلي : " ان المكتري العازم اما على المنازعة في الأسباب التي يستند عليها المكري لافراغ المكان أو لرفض تجديد العقدة واما المطالبة باخذ التعويضات… أو كونه لا يقبل الشروط المقترحة عليه … يجب ان يرفع المنازعة إلى رئيس المحكمة الابتدائية للمكان الموجود فيه الملك في ظرف 30 يوما …".
وحسب هذا الفصل، فان المختص مكانيا ونوعيا للتوفيق بين طرفي عقد الكراء " التجاري" لتجديده هو رئيس المحكمة الابتدائية للمكان الذي يوجد فيه الملك.
ومع التأكيد على ان هذا الاختصاص ـ المكاني والنوعي ـ هو مـن النظـام العام، اذ ليس من الممكن الاتفاق على إجراء مسطرة الصلح أمام رئيس محكمة اخرى غير المحكمة الابتدائية للمكان الذي يوجد فيه الملك موضوع الكراء، كما انه لا يمكن لرئيس المحكمة الابتدائية ان يفصل في صحة الإنذار أو في صحة اثباته ـ القرار رقم 1896 بتاريخ 17/10/84 ملف مدني عدد 78.984، مجلة المجلس الأعلى، عدد 39.
ذلك ان " مهمته… هي ان يصلح بين الطرفين وعليه ان يحرر تقريرا عن جلسة الصلح.." ـ الفصل 28 من الظهير.
إذا كان الامر كذلك، فكيف يمكن القول بان المحاكم التجارية أو بالاحرى رؤسائها ـ هم المختصون ـ حاليا ـ لاجراء تلك المسطرة بالرغم من عدم وجود نص صريح يسند إليهم ذلك الاختصاص.
وحتى المادة 20 التي تحدد اختصاصات هؤلاء الرؤساء، لا تسمح بذلك التأويل، فهي تنص على انه : " يمارس رئيس المحكمة التجارية الاختصاصات المسندة إلى رئيس المحكمة الابتدائية بموجب قانون المسطرة المدنية وكذا الاختصاصات المخولة له في المادة التجارية".
اذن فاختصاصات رئيس المحكمة التجارية، حسب هذا النص، لا تخرج عن تلك المنصوص عليها في قانون المسطرة المدنية وتلك الواردة في المادة التجارية، ولا تتعدى ذلك إلى اختصاصات رئيس المحكمة الابتدائية المخولة له بمقتضى نصوص خاصة كظهير 24 ماي 1955 الذي يجعل إجراء الصلح من مهمة هذا الرئيس ـ رئيس المحكمة الابتدائية ـ ثم ان هذه المهمة غير منصوص عليها لا في قانون المسطرة المدنية ولا في المادة التجارية وباعتبار انها تتعلق بتجديد عقد الكراء "التجاري" ولا علاقة لها بالاصول التجارية.
ان أي تاويل يسعى إلى جعل اختصاص النظر في دعاوي هذا الكراء من نصيب المحاكم التجارية بالرغم من ان دعوى الموضوع بالنسبة لظهير 24 ماي 1955، لا يمكن رفعها بشكل مقبول الا بعد مرور اجل ثلاثين يوما من تبليغ قرار عدم نجاح الصلح الذي لا يمكن ان يصدر حسب التشريع المغربي، الا عن رئيس المحكمة الابتدائية، يبقى تأويلا غير مسند.
الرأي الثاني
ومن قائل بان المحاكم التجارية هي المختصة بالنظر في النزاعات المتعلقة بالكراء "التجاري" ما دام انها مختصة حسب النص الجديد ـ المادة 5 من ق م ت. ـ بالنظر في النزاعات المتعلقة بالاصول التجاري.
وان غاية المشرع لم تكن حصرية، أي ترمي إلى حصر ذلك الاختصاص في العقود المتعلقة بالاصل التجاري : البيع، الرهن، الكراء الخ. دون غيرها من النزاعات التي يمكن ان تثار حول هذا الأصل، مثل المطالبة بالتعويضات المنصوص عليها في ظهير 24 ماي1955.
ثم ان دعوى الصلح، وكذا الشرط الفاسخ المنصوص عليه في الفصل 26 من الظهر المذكور، تتعلق بالكراء " التجاري" الذي يدخل في مفهوم المادة التجاري التي هي من اختصاص رئيس المحكمة التجارية طبقا
للمادة 20 من ق م ت.
لكن يظهر ان هذا الراي لا يفرق بين الأصل التجاري الذي يدخل في مفهوم المادة التجارية حسب المدونة التي اعادت تنظيمه بكيفية اشمل واوضح، وبين عقد كراء الاماكن التي تستغل فيها اعمال تجارية، الذي لا يدخل ضمن هذا المفهوم، على أساس ان المدونة لم تتطرق إليه لا من قريب ولا من بعيد، زيادة على طبيعته المدنية.
وباعتبار هذه التفرقة، فان النزاعات التي يمكن ان تترتب عن التعامل في ذلك الأصل ـ وهي غير منظمة وغير محصورة ـ تختلف عن النزاعات المتعلقة بذلك العقد والتي نظمها المشرع شكلا وموضوعا في اطار ظهير 24 ماي1955، بحيث لا يمكن ان تنضاف إليها نزاعات اخرى، كما لا يمكن ان تسلك بشانها مسطرة اخرى غير المسطرة المنصوص عليها في ذلك الظهير.
كما ان اختصاص النظر فيها موكول ـ حسب نفس الظهير ـ إلى المحكمة الابتدائية والى رئيسها حسب الحالات.
كما ان دعوى الصلح، وكذا الشرط الفاسخ، وان كانا مرتبطين بعقد الكراء انهاء وتجديدا، فان هذا العقد هو نفسه ليس عقدا تجاريا كما سبق بيانه، وبالتالي فلا يمكن اعتبارهما من مشمولات المادة التجارية.
ثم انه ليس في المادة 5 من قانون المحاكم التجارية ما يسمح ـ صراحة أو ضمنا ـ بتمديد اختصاص هذه المحاكم بالنظر في الدعاوي المتعلقة بالاصول التجارية إلى تلك المتعلقة بعقد كراء الاماكن التي تستغل فيها اعمال تجارية والمنظمة قبل تاريخ دخول القوانين الجديدة إلى حيز التنفيذ ـ قانون المحاكم التجارية ـ مدونة التجارة ـ قوانين الشركات ـ بمقتضى قانون خاص ـ يسند اختصاص النظر فيها إلى المحاكم الابتدائية والى رؤسائها.
ويعتمد هذا الراي كذلك على مقتضيات المادتين 79 و80 من مدونة التجارة التي تعرف الأصل التجاري وتعدد مشتملاته التي من بينها الحق في الكراء.
وبما ان هذين الفصلين ورادين في القانون الذي ستطبقه المحكمة التجارية ـ أي مدونة التجارة ـ ويتحدثان عما ذكر، فانه، أي هذا الراي، خلص إلى القول بان المحاكم التجارية مختصة بالنظر حتى في قضايا ظهير 24 ماي 1955.
لكن من جهة، فان المدونة هي قانون موضوع لا قانون شكل ولا علاقة لها بتوزيع الاختصاص بين المحاكم مبدئيا.
ثم ان المادة الأولى ـ المادة 79 ـ انما تعرف الأصل التجاري فقط والمادة الثانية ـ المادة 80 ـ تعدد مشتملاته التي قد يكون من ضمنها الحق في الكراء حسب الضرورة.
ويبدو ان هاتين المادتين تتعاونان في تحديد " الموضوع " الذي ستطبق عليه مقتضيات المدونة اللاحقة لهما، أي مقتضيات القسم الثاني من الكتاب الثاني المتعلقة ببيع الأصل التجاري وتقديمه حصة في شركة ورهنه وكرائه ـ المواد من 81 إلى 158 من م ت. ـ وهي مقتضيات لا تمت باية صلة لمجال الاختصاص، علاوة على انها وردت تحت عنوان العقود المتعلقة بالاصل التجاري ولا نجد من بينها مقتضيات تتعلق بعقد كراء الاماكن التي تستغل فيها اعمال تجارية.
وحتى عبارة الكراء " التجاري" التي كانت تستعمل للتعبير عن كراء تلك الاماكن والتي " ربما" تكون قد ساهمت في تشكيل هذا الراي، فانها قاصرة وغير دقيقة : فبالإضافة إلى تركيزها على التاجر المكتري ـ فقط ـ دون المالك المكري ـ غير التاجر، فان الاقبال من طرف هذا الأخير على عقد هذا النوع من الكراء، لا يشكل عملا تجاريا، بل هو عمل مدني في الغالب، وبالتالي فانه لا يمكن مواجهـته بقواعد القانون التـجاري طبقا للمادة 4 من مدونة التجارة.
ثم ان اعتياد المحاكم الابتدائية على احالة القضايا التي يطبق عليها ظهير 24 ماي 1955 على الغرف التجارية ـ في اطار التقسيم الداخلي ـ لا يمكن اعتماده للقول بتجارية تلك القضايا، والقول تبعا لذلك، باختصاص المحاكم التجارية للبت فيها ما دام ان الامر يتعلق بالاختصاص الذي لا بد فيه من نص صريح يلغي نصوص الظهير المذكور، خاصة تلك التي تجعل تطبيق مسطرة هذا الظهير وقواعده الموضوعية من اختصاص المحكمة الابتدائية ورئيسها.
الرأي الثالث
ومن قائل باختصاص المحكمتين معا : الابتدائية والتجارية، بالنظر في الدعاوي التي ينظمها ظهير 24 ماي1955، فالاولى تختص متى كان المكري غير تاجر ـ من اشخاص القانون المدني ـ والمكتري تاجرا، فالعقد هنا مختلط، لذلك تختص المحاكم الابتدائية. ـ المادة 4 من م ت.
وتختص الثانية، أي المحاكم التجارية، " إذا كان كل من المكري والمكتري تاجرين… لا ن العقد هنا عقد تجاري والمحاكم التجارية تختص بالنظر في الدعاوي المتعلقة بالعقود التجارية ـ الفقرة الأولى من المادة 5 من قانون احداث المحاكم التجارية ـ الأستاذ شكري السباعي، جريدة العلم، العدد 17420 بتاريخ 6/1/1998.
ان هذا الراي يبدو في نهاية التحليل اقرب إلى الراي الأول القائل باختصاص المحاكم الابتدائية، اذ نادرا ما يكون طرفا عقد الكراء تاجرين، وهو شرط لازم لاختصاص المحاكم التجارية حسب تحليلات هذا الراي، وبالتالي تبقى المحاكم الابتدائية هي المختصة في الغالب من الحالات.
ثم ان تجارية طرفي عقد كراء الاماكن التي تستغل فيها اعمال تجارية، لا تكفي وحدها لاعتباره عقدا تجاريا، بل لا بد زيادة على ذلك، من ان يكون العقد مرتبطا بالحاجة التجارية لعاقديه.
ومن النادر ان يكون عقد الكراء المذكور مرتبطا بالحاجة التجارية للمكري، على الخصوص، وبالتالي فانه من الصعب على هذا الاساس وحده القول باختصاص المحاكم التجارية في قضايا ظهير 24 ماي1955.
وعقد الكراء ـ ذلك ـ وان كان عقدا رضائيا شانه شان العقود التجارية، فان تحويل الحقوق الناتجة عنه ـ حق الكراء ـ لا يتم بنفس سهولة تحويل الحقوق في الأوراق التجارية، فالفصل 195 من ق ل ع يشترط لنفاذ الحوالة في حق المدين بالحق ـ المكري ـ تبليغها إليه رسميا أو قبوله اياها في محرر ثابت التاريخ ـ مؤخرا خفف المجلس الأعلى من حدة تلك الاشتراطات ـ قرار عدد 1395/94 بتاريخ 13/4/1994، منشور بقرارات المجلس الأعلى المادة التجارية من 90 إلى 97، ص 121.
واذا كان اقتضاء الحقوق في المادة التجارية بشكل عام، يتسم بنوع من القساوة : وجوب الاداء في الميعاد، فوائد التاخير، النفاذ المعجل، خاصة في الامر بالأداء - المادة 22 من ق م ت ـ عدم الامهال ـ المادة 231 والمادة 304 ـ كمثالين فقط ـ فان الامر ليس كذلك بالنسبة لعقد الكراء، بل ان ظهير 24 ماي1955 يجعل من وسع " الحاكم ان يوقف عمل بنود العقدة القاضية بفسخها لعدم اداء واجب الكراء وقت حلول التاريخ المتفق عليه وان يعطي للمكتري ـ الذي غالبا ما يكون تاجرا ـ اجلا لاداء ما عليه تحدد مدته القصوى في سنة واحدة…"، كما ينص الفصل 38 من نفس الظهير على : " ان افـلاس المكتـري، أو تصفية حساب اعماله التجارية عن طريق العدالة لا تؤدي حتما إلى فسخ عقد كراء الأملاك المخصصة باستعماله الصناعي أو التجاري أو الحرفي …".
ويتاكد ـ كخلاصة ـ من كل ذلك ان عقد كراء المحلات التي تستغل فيها الاعمال التجارية، لا تحكمه الاجواء التجارية التي تحكم العقود التجارية بشكل عام، وبالتالي يصعب اعتباره عقدا تجاريا.
هذا باختصار شديد عرض للآراء التي برزت من خلال مناقشة الاشكالية موضوع هذه الورقة.
رابعا : فما هو الرأي إذن
لا بد لأي اختيار ـ في مجال القانون ـ من أي يراعي حاجات المجتمع وان يلبيها قدر الامكان، وباقل ما يمكن من الخسائر.
كما انه لا بد في أي تفسير أو تاويل للقانون من ان يلزم حدوده والا يتدخل، على الخصوص، في مجال التشريع.
وارتكازا على ذلك، يبدوان اشكالية الساعة لم تكن لتطرح على الاطلاق ما دام ان التشريع الجديد لم يتناول موضوعها بالمرة.
واذا كانت المدونة قد الغت مجموعة من الظهائر ـ المادة 733 منها ـ فانها لم تلغ ظهير 24 ماي 1955، كما انها لم تعارضه ولم تنظم علاقاته من جديد كما فعلت بالنسبة لظهير1914 المتعلق ببيع ورهن الأصل التجاري.
ثم ان القانون المحدث للمحاكم التجارية لم يسند اختصاص النظر في دعاوي الظهير المذكور إلى هذه المحاكم صراحة أو ضمنا، أي انه لم يسلب هذا الاختصاص من ذويه الاولين حسب نص الظهير ـ ظهير 24 ماي 1955.
واذا كنا نرى ان المحاكم الابتدائية هي المختصة، كما كان الامر سابقا، بالنظر في الدعاوي المذكورة، فليس الا لان الظهير الذي ينظمها ـ من حيث الاختصاص ـ لم يقع الغاؤه بنص صريح ولم يتم كذلك تعديله، زيادة على ان المواد المتعلقة بالاختصاص، والتي سبقت الاشارة إليها لم تجعل صراحة البت في تلك الدعاوي من نصيب المحاكم التجارية ورؤسائها ـ المواد 5 - 6- 7- 8- 9- 20.
ويظهر من ذلك كله، ان المحاكم الابتدائية هي التي لا زالت ـ كما كانت ـ مختصة بالنظر فيما ذكر.
وما دام الامر كذلك، فان طرح هذا الاختصاص للتساؤل عن صاحبه كاشكالية بالرغم من عدم وجود المبرر القانوني لذلك، من شانه ان يثير ـ وقد فعل ـ الكثير من القلق والاضطراب والخوف على الحقوق بين المحكومين بظهير 24 ماي 1955، ذلك ان الدخول ـ وهذا هو مثار ذلك القلق والاضطراب والخوف ـ إلى محكمة غير مختصة، قد يترتب عنه في النهاية ضياع حقوق هؤلاء بفعل مرور الزمن، أي بفوات اجال الالتجاء إلى الجهة المختصة قانونا، وهي اجال سقوط لا تنقطع ولا تتوقف ولو بقرار الإحالة على المحكمة المختصة.
ثم ان الإحالة بقوة القانون حسب نص الفصل 16 من ق م م وقرار المحكمة الادارية بالرباط بتاريخ 4/4/1995 ـ المعيار عدد 21، ص236 ـ لا تتعلق الا بالدفع بعدم الاختصاص المكاني الذي يشترط لقبوله تعيين المحكمة المختصة، وهو بخلاف الدفع بعدم الاختصاص النوعي الذي لا يشترط فيه ذلك.
وهذا يعني ان المحكمة الابتدائية لا تملك حق الإحالة في حالة البت في الدفع بعدم الاختصاص النوعي المثار امامها ان لم تكن هي المختصة.
وحتى قرار الإحالة الذي قد تتخذه محكمة الاستئناف التجارية بعد البت في الاختصاص طبقا للمادة 8 من ق م ت لا يسعف في توفيق وفي قطع تلك الاجال.
كل ذلك مع التذكير بان المحكمة الابتدائية ليست ملزمة بالبت في الدفع بعدم الاختصاص بحكم مستقل، بل لها ان تضيف الطلب العارض إلى الجوهر.
وبفوات اجل السقوط ـ ذلك ـ غير القابل للتوقف وللانقطاع ولو بقرار الإحالة، تسقط كذلك الحقوق، وبشكل حاسم جاء في القسم 27 من الظهير : "… وان انقضى الاجل المذكور يسقط حق المكتري ويعتبر إذا ذاك اما كونه تنازل عن تجديد العقدة وعدل عن المطالبة بالتعويض عن الافراغ، واما كونه قبل الشروط المقترحة عليه لابرام العقدة الجديدة …".
كما لا يمكن تقديم دعوى الفصل 32 بشكل قانوني، إذا لم ترفع داخل اجل ثلاثين يوما من يوم اعلام المكتري بمحضر عدم نجاح الصلح من باب أولى إذا لم يقع الالتجاء إلى مسطرة الصلح.
واذا كان بالامكان مسايرة الراي القائل باختصاص المحاكم التجارية في الموضوع ـ موضوع انهاء وتجديد الكراء " التجاري" على الاقل لتحقيق مزية توحيد جهة الاختصاص في النزاعات التجارية عموما، بالرغم من ان احد طرفي العلاقة غير تاجر مادام ان هذه المحاكم ستطبق نفس النص الذي تطبقه المحاكم المدنية ـ ظهير 24 ماي 1955.
فان ما لوحظ مؤخرا من هيمنة التجاري بمزايا السرعة والسهولة وحتى التشدد في اقتضاء الحقوق عند حلول اجالها، يجعل من انشاء محاكم خاصة للنظر في النزاعات التجارية امرا مطلوبا بالتأكيد.
لكن، مع ذلك، فانه من الصعب واقعا تحقيق ذلك الراي والدفاع عنه، خصوصا أمام القضاء ـ في ظل التشريع الحالي ـ عندما يثار الدفع بعدم اختصاص تلك المحاكم ـ أي المحاكم التجارية ـ اذ لا نص يحمي هذا الاختصاص وان النص القديم ـ الذي لم يلغ ـ يجعل هذا الاختصاص صراحة من نصيب المحاكم الابتدائية.
كما انه من الصعب الاجهاز على اليقين القانوني الذي رتبه تطبيق ظهير24 ماي 1955 أمام المحاكم الابتدائية لاكثر من اربعين سنة، بناء على مجرد راي أو تاويل، بل لابد من نص صريح قادر على خلق يقين قانوني جديد.
وعلى اية حال، إذا كان لا بد من نقل هذا الاختصاص من المحكمة الابتدائية إلى المحكمة التجارية ولأسباب قد تكون تجارية أو اقتصادية أو حتى سياسية، فانه لا بد من ان يتم هذا النقل بمقتضى نص قانوني غاية في الصراحة والوضوح، كما سبق ذكره، حفاظا على الاستقرار والطمأنينة بين المعنيين بهذا الظهير وحفاظا كذلك على هيبة وصفاء قضائنا المغربي.
الأستاذ محمد بولمان محام بهيئة مراكش
مراجع:
إنصاتات
1.الايام الدراسية حول قانون الاعمال من 16/4/1998 إلى 18/4/1998 التي نظمتها هيئة المحامين بالدار البيضاء بتعاون مع الهيئة الدولية للمحامين ذات التقاليد المشتركة.
2.ندوة هيئة المحامين باسفي حول " المدونة والمحاكم التجارية اية افاق؟"، 24 - 25/4/1998.
قراءات
1.الأستاذ شكري السباعي، جريدة العلم، 6/1/1998.
2.الأستاذ مشقاقة رشيد، جريدة العلم، 2/8/1997.
3.الأستاذ مشقاقة رشيد، جريدة العلم، 5/2/1998.
4.الأستاذ ادريس فجر، الاتحاد الاشتراكي، 7/6/1998.
5.الأستاذ تجاني عبد اللطيف، جريدة العلم، 17/8/1997.
6.التاجير للاستاذ محمد لفروجي.
7.دراسات في القانون التجاري المغربي للاستاذ عز الدين بنستي.
8.القضاء المستعجل ( بنصوص خاصة) عرض من اعداد الاستاذين محمد صابر ـ مستشار بمحكمة الاستئناف التجارية بمراكش ـ وعبد الجليل اليزيدي تحت اشراف الدكتور عبد الله درميش، جامعة القاضي عياض، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بمراكش، السنة الثانية من الدراسات العليا المعمقة في القانون المدني، 97/98.
9.المحاكم التجارية للاستاذ محمد المجدوبي الادريسي.